بسم الله الرحمان الرحيم
انبسطتْ تحت أشعة الشمس رُقعة مترامية الأطراف من منازل متناسقة البنيان، زاهية الألوان، تحوطها أشجار الأرز الباسقة و جبال خضراء شامخة..
و لعل الرّائي من عل سوف يرى انشطار الرقعة إلى شطرين و انقسامها إلى قسمين متباينين.. قسم من البنايات الحديثة، و الذي يُطلق عليه اسم (المدينة الجديدة) و هو الأوسع نطاقا، و الأكثر انتشارا حيث يحتل ثلثي المساحة تقريبا. و قسم ثاني تظهر معالم القدم على منازله و مساجده و أسواقه الفسيحة.. و هو ما يشكل (المدينة القديمة).
هذه الرقعة هي مدينة (فاس).. العاصمة الثقافية و التراثية للمغرب، فما أجمل أبوابها المزخرفة و ما ألذّ لكنة سكانها السلسة و ما أبهى ذلك الشعور بالانتماء الذي يتملّكك و أنت تتجول بأزقتها الشعبية!..
* * *
المدينة القديمة، ساحة القرويين، حي الحنصالي.. فضاء شعبي يموج بالحياة و يعُجّ بالحركة.. متشابهة منازله، متقاربة أبوابه..
صبيان يركضون بخفة أمامك ثم سرعان ما يختفون بأول انحراف فلا يبقى سوى صدى ضحكاتهم تتقاذفه الجدران.. ثم تمر في الطرف الآخر من الزقاق ثلة من نساء محجبات يمشين بتؤدة و استحياء و يحملن أكياسا على رؤوسهنّ بطريقة فيها من البراعة و الحذاقة الشيء الكثير..
و شديد الانتباه لن تفوته ملاحظة منزل معزول في آخر الحي..
جدرانه متآكلة، زجاج نوافذه مكسور، و أكثر ما يشدّ الانتباه هو بابه الضخم العتيق، و قد عُلّقت فوقه قطعة خشبية، مائلة، مكتوب عليها بخط قديم (رقم 12)..
و إذا سألت أيّ شخص يقطن بذلك الحي عن هذا المنزل.. سيجيبك بسؤال أكثر غموض من سؤالك.. ( أتقصد المنزل 12 !؟ )..
إنه بيت شهير تحوم حوله الأساطير و تتحدث عنه قصص الأشباح و الأرواح.. و لعلّ
أشهرها إن لم أقل أكثرها وثوقا هي قصة السيد (علاّل)..
إذ يُروى أن هذا السيد كان يملك المنزل رقم 12 منذ ما يعادل قرنا من الزمان.. رجلٌ عادي، يشتغل بالأمن.. وكان يحبس أخاً له بغرفة بالطّابق العلوي..
و يُقال أن ذلك الأخ كان مجنونا.. لدرجة جعلته عنيفا للغاية، لا يستطيع أحدٌ التحدث إليه أو الاقتراب منه.. حتى أن السيد (علاّل) كان يقدّم له الطعام من فتحة أسفل الباب..
مات السيد (علاّل) في منتصف القرن الماضي، في ظروف غامضة، و مات أخوه بعده بوقت وجيز.. و منذ ذلك الحين بدأت أشياء غريبة تحدثُ بالمنزل رقم 12..
فغادر المنزل كل من استأجره و بطريقة مخيفة.. منهم من يخرج عاريا، يجري و قد ترك كل ما يملك في المنزل.. و منهم من فقد عقله تماما.. و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !..
فقرّر وارث المنزل رقم 12، منذ عقدين أن يغلق باب تلك الغرفة، التي كانت سجنا للأخ المجنون، فوضع فوق بابها كميات كبيرة من الخرسانة!.. بعد أن اعترف من لم يفقد حياته و لا عقله من المستأجرين أن تلك الغرفة بالذات تحوي سرّا مرعبا.. إذ يُسمع ببابها ليلا صوت قرع عنيف حتى يتوقعون أن ينخلع الباب من مكانه !.. ثم أصوات خدش بالأظافر و عويل تقشعرّ له الأبدان !..
و تخلّى بعد ذلك صاحب المنزل 12 عن ملكيته.. فخلى المنزل من السكان و الأثاث و من كل شيء.. ما عدا ذلك البيت بالطابق العلوي و الذي لم يجرأ أحدهم على دخوله ليفرغ ما به من أثاث.. وبقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضا، رهيبا.. و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة..
دُفن و به السرّ الذي بقي مجهولا حتى تلك الليلة من شتاء سنة 1985!..
* * *
ركنَ القطار أخيرا بعد أن أصدرَ صريرا..
انفتح الباب الحديدي على مصراعيه، فظهرت وجوه متوترة جدّية، عيونها تبحث عن شيء ما !..
و حين انقشع الزحام و خفت كثافة الأنام.. ظهر شابان فارعا الطول، جميلا الهندام.. تبدو جليّة على محيّاهما إمارات الشباب و الحيوية و كثرة الكلام..
في ذلك المسـاء كان الجو غائما.. إذ اقتربت السحب الرمادية المبعثرة و امتزجت لترسم سماء كئيبة، تنذر بغضب الرياح..
* * *
دلف الشابان إلى بار في مؤخرة زقاق مظلم.. كانت الساعة وقتها تشير إلى الثامنة ليلا..
......
الحادية عشرة و النصف.. صوت ضحكات مدوّية بالمكان.. خرج الشابان و هما يترنحان من فرط السكر.. يصطدمان ببعضهما ثم بجدران الزقاق المظلمة..
انتبها إلى أن السماء ترسل خيوطا من الماء البارد.. صرخ أحدهما و هو يرفع رأسه إلى السماء، و قهقه الآخر بعد أن ركل صاحبه على مؤخرته..
أدخل (هشام) يده بجيبه و أخرج باطنه بسخرية، كتعبير على نفاذ النقود لديه !..
قام الآخر بنفس العملية ليسترسلا في ضحك عالي..
قال (جمال) و هو يجول مع رفيقه بشوارع المدينة شبه الفارغة:
- تبا لتلك المومسات !.. لقد سرقن كل ما تبقى معي من المال..
أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
- أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..
* * *
وصلا أخيرا، بعد أن تاها بأحياء المدينة المتشعّبة، إلى فنـاء رحب، كُتب على لافتة بمدخله "سـاحة القرويين" !..
كان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها..
قلّب (هشام) كفيه في انعدام حيلة و قال..
- البرد و الشتاء و لا مكان نلقي فيه جسدينا المنهكين !..
قد بدأ أثر الخمر يزول عن ذهنيهما شيئا فشيئا لما أحسا بحجم المصيبة التي يواجهانها..
لم يجبه (جمال) و إنما أشار بأصبعه إلى مكان ما قائلا:
- أ ترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا..
- نعم أراه.. ما به ؟
- ما رأيك لو..
- أجننت.. نبيت هناك ؟.. ألا ترى النوافذ المكسورة !.. و الحائط العتيق ؟!.. ثم أنظر إلى تلك الكتابة "رقم 12 " !.. و كأنها تعود لعهد الرومان !..
- إنه الحل الوحيد يا أبله.. ماذا نفعل ؟.. أنحشر أنفسنا في سطلي قمامة مثلا ؟.. أم ننام على أغصان شجرة ؟..
- لماذا لا تقول نطرق الأبواب و نطلب المبيت ؟..
- يا لسذاجتك !.. أتظن أن أحدا يرغب باستضافة سكيران، تائهان مع منتصف الليل و المطر يقصف الأرض قصفا ؟..
بدا و كأن (هشام) قد اقتنع بكلام صاحبه فطأطأ رأسه و ركل قنينة فارغة أمامه لتصدر صوتا حادا على قارعة الطريق البّراقة تحت ضوء القمر..
ثم قـال..
- كيف سندخل إذن ؟
ابتسم (جمال) و بهدوء أجاب:
- أظن أننا لازلنا نملك قوة لتكسير نافذة عتيقة !..
* * *
قفز (جمال) بحذر من النافذة المكسّرة ثم تبعه (هشام) و التردد بادي على حركاته !..
توجّعت شظايا الزجاج المتناثرة تحت قدميهما و هما يواصلان تقدمهما بالمكان الرهيب.
الصمت عقيم و الظلام مقيم.. إلا بصيص من نور يتسلّل من النافذة..
- أكاد أختنق !.. ألا يوجد أوكسجين هنا ؟..
قالها (هشام) بعد أن شهق بعمق..
- يبدو كأن أعواما طوالا مضت و المنزل مغلق، منسي..
- غريب !.. مع أن هذا الحي مأهول بالسكان ؟..
وجدا شموعا متناثرة وسط أكوام القمامة و العفر، فالتقط (جمال) واحدة و أشعل فتيلها، ليظهر نصف وجهه، يتراقص عليه لهيبها..
- لعبة واحدة من الورق ثم ننام ملئ جفنينا..
قالها (جمال) و هو يعبث بخصلات شعره..
- أكاد أموت من الإعياء و أنت تقول..
- قلتُ لعبة واحدة فقط !..
رضخ (هشام) مرة أخرى لرأي (جمال).. و جلسا مفترشان الأرض..
و ما هي إلى مدة وجيزة حتى علت ضحكاتهما و تردد بالمكان صوتهما !..
* * *
كانا يصعدان الدرج على ضوء الشمعة الشاحب.. و قد صنع بهما التعب ما صنع.. أنهيا سبع أشواط من لعبة الورق ليقررا، أخيرا، البحث عن مكان أقل قذارة حتى يستقبل جسديهما !..
- ما أقدم هذه الدرجات !.. يا إلهي، إلى أي عصر يعود هذا المنزل اللعين ؟..
لم يجبه (هشام)، فقد كان شارد الذهن، تائه العينين !..
- هيه !.. ما بك ؟..
- لا أدري لماذا لم..
- ماذا لم.. ؟
- لم أرتح كثيرا لهذا المكان ؟.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !..
ظهرت ابتسامةُ سخرية على ثغر (جمال) قبل أن يضرب على كتف صديقه و هو يهتف..
- لا تخف يا ولدي.. لن يأكلك (بابا الغول).. نياهاهاها..
وصلا الآن إلى مدخل الطابق الأول.. القذارة لا تُطـاق !..
ساحة فسيحة و أبواب تحوطها بشكل دائري.. رهيب !..
حاولا فتح الأبواب، واحد بواحد، لكن لا جدوى !.. إنها مُغلّقة تغليقا !..
- تبّـــا !!..
قالها (جمال) بعصبية بالغة، ثم توجه بخطى مسرعة إلى الدرج..
رفع (هشام) رأسه المنحني و دمدم بصوت خفيض:
- إلى أين ؟..
- بقي الطابق العلوي..
* * *
الطابق العلوي..
نفس المظهر المهيب.. حيث الساحة الواسعة و الأبواب تحاصرها.. و نفس المشهد المقزز إياه من الأزبال و القارورات الفارغة و الأواني البالية..
لكن يوجد فارق بسيط هنا !..
يبدو أن (هشام) و (جمال) قد لاحظا تلك الغرفة هناك.. آخر الرواق !..
غرفة تناثرت أمامها كتل هائلة من الأحجار الخراسانية !.. و قد ظهر باب لازالت عالقة به قطع من الأحجار !!..
و مما لا شك فيه أنهما انتبها كذلك إلى كون الباب مفتوحا على فُرجة صغيرة !؟..
* * *
وبقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضاً، رهيبا.. و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة..
* * *
__________________
---------------
أوراق رفعت خالد
-------------------------------------